لم يكن يعلم «بروسبير مريمية» عندما ألف قصته القصيرة «كارمن» عام 1845 أنها ستصبح قبلة مبدعي العالم بعد أن اقتبسها منه «جورج بيزيه» وعمل منها أوبرا غنائية أعاد كتابتها 13 مرة، لتعرض في أوبرا «كوميك» في عام 1875 ولتصبح الأوبرا الفرنسية الأولى التي تعرض في العالم اليوم، وفي بداية الثمانينيات أعاد «بيتر بروك» و«ماريوس كونستان» قراءة أوبرا «كارمن» في التوزيع الموسيقي، وعمل على النص «كلود كاريير» وسميت «تراجيديا كارمن» بعد أن كثف الجانب الدرامي والتراجيدي لـ «كارمن» «بيزيه» فخفض عدد الشخصيات من خمس عشرة إلى سبع، وقدمت لأول مرة عام 1982، إضافة إلى أن «بيتر بروك» اقتبس فيلماً سينمائياً منها وتم عمل أكثر من أربعين فيلما سينمائيا تتناول هذه التراجيديا التي حملت العديد من وجهات النظر والتفسيرات والرؤى الفنية، من خلال عروض الباليه والرقص باستخدام موسيقا «كارمن» أو مترافق مع الأوبرا، لنراها اليوم عملا مشتركاً سورياً- فرنسياً على مسرح دار الأوبرا من إخراج جهاد سعد وغناء «رشا رزق» خريجة المعهد العالي للموسيقا والمدرسة فيه و«شادي علي» الدارس في المعهد العالي الموسيقي، ومشاركة فرقة سما «الراقصة».
الأوبرا
احد أهم الفنون الأوروبية هي الأوبرا التي تعتبر شكلا من أشكال المسرح، تعرض الدراما بالموسيقا أو بالغناء ونشأتها الأولى كانت في ايطاليا عام 1600 قبل أن تنتشر لتصبح من الفنون المهمة في كل أوروبا وتعتبر جزءاً من الموسيقا الكلاسيكية، والتي تمتلك كافة عناصر المسرح مثل التمثيل والرقص والأزياء والمشاهد المسرحية وتكون مصحوبة بأوركسترا أو فرقة موسيقية أصغر. ظهرت الأوبرا الأولى عام 1597، ومن المغنين العالميين المشهورين «لوتشيانو بافاروتي» الإيطالي الذي توفي في السنة الماضية، والذي لم يكن يغني بصوته فقط ولكن بكل أجزاء جسده وروحه. وكلمة أوبرا تعني باللغة الإيطالية «العمل» أو بذل الجهد، وهذا يفسر مزجها ما بين الفن المنفرد مع الجوقة الموسيقية، الخطبة، التمثيل، والرقص على منصة المسرح، ومن هنا أتت تسمية أوبرا أو مسرحية أوبرالية، وهي امتداد للمسرح الإغريقي الذي كانت الجوقة فيه جزءاً من أجزاء الدراما..
كارمن وصراع القيم:
خمسون فنانا وفنيا وكومبارسا صنعوا المسرحية الأوبرالية «تراجيديا كارمن» مغناة باللغة الفرنسية، ولذلك ذهبت فرصة اختيار الأصوات إلى المغنين السوريين الذي يعرفون الفرنسية والذين اختارهم المايسترو الفرنسي «سيلفان غازا نسون»، الذي قاد الأوركسترا التي يعزف فيها أيضاً موسيقيون سوريون.. و من المعروف أن الغناء الأوبرالي يتطلب قدرة عالية ومساحات متنوعة في الصوت لأن هذا النوع من الغناء يتعاطى مع حالة درامية تحتوي كافة التلوينات الروحية والحسية لتجسيد أحداث مسرحية وحوارات صنعت لها موسيقا تحاكي أحداثها وتطور شخصياتها.
«كارمن» والتي تمثل تراجيديا الحب أو تراجيديا المرأة أو تراجيديا إخفاق عملية التزاوج بين الحضارة الصناعية وعفوية حياة الطبيعة، والتي كانت شغف بيكاسو في جميع مراحل حياته وانكساراته، قد شغلت كل من تناولها وأغرت كل من عرف المسرح والأوبرا بالمحاولة بها، لما تحويه من لحظات درامية خاصة ومؤرقة احتملت الكثير من التفسيرات والتأويلات الفكرية والفنية.. فكانت عند الكثيرين قربانا لسيادة العنف الروحي القهري وقتل العفوية، عندما كانت «كارمن» غجرية تنتمي إلى اللا مكان واللازمان متحررة إلا من الطبيعة، لا يحكم انفعالاتها أو ردات فعلها أي قانون من قوانين حضارة البشر الحديثة الذين يعيشون الحضارة الصناعية، لذلك أتت وبالطريقة التي قدمها «بيتر بروك» متناقضة مع ما نعيشه من أخلاقيات الالتزام الذي يجب أن يكون أساس التفكير بالحب، والذي يجب أن يؤدي إلى زواج، في حين «كارمن» تنفعل بالحب كردة فعل طبيعية على الانجذاب إلى رجل أظهر لها الحب والود، ، وهذه تصرفات أو انفعالات منسجمة مع طبيعة الحياة الغجرية التي كانت رمز التنقل والترحال وعدم الاستقرار، فلا أرضاً لهم ولا مكاناً عندما انتموا إلى السماء في حين انتمينا نحن إلى الأرض. ولأنها لا تنتمي إلينا كان منطقيا أن تموت، ليس بالمعنى المادي للكلمة ولكن بمعنى الإقصاء والإلغاء وقتل الحب والطبيعة..
الإخراج الدرامي وغياب الرقص:
دخل جهاد سعد على نص مكتوب موسيقيا وغنائيا، وتعامل مع محترفين يعرفون الحركة على المسرح، وبسبب طبيعة الغناء الأوبرالي الذي يستهلك قدرة التنفس لا يمكن الضغط عليهم في الحركة فكانت عملية تحريكهم بسيطة على المسرح، وهذا ما يحصل في الأوبرا بشكل عام، لكن الذي أعاق حركتهم كان الديكور الذي اختاره «جهاد سعد»، والذي كان يقصد منه التحرر من الزمان والمكان الدال على الحدث، والذي كان مائلا باتجاه الجمهور ومقسوم إلى قسمين على طول الخشبة وعرضها، بلون خشبي لديه القدرة على عكس اللون الدموي الكئيب الذي كان مرافقا لكل مفاصل العرض، وخلفها ممر للدخول والخروج، وكان على الكومبارس أن يقفزوا إلى المنصة العالية من جهة العمق عندما يدخلون، ليتجمعوا على أساس أنهم أهل القرية، أو خلفية حية للمشهد، مثلما كانوا يقفزون بين قسمي أو كتلتي الخشبة من أجل الحفاظ على «الميزانسين» دون إظهار الإحساس بتلك الكتل الخشبية .. أما في صدر الفضاء المسرحي، أقرب إلى اليسار علقت لوحة كبيرة مكونة من دوامات للونين الأحمر والأسود، لتوحي بالدم والقتل الذي ستلاقيه «كارمن» في النهاية، قمعت كل احتمال لتأسيس تضارب في المشاعر الدرامية أو تفاعلها، وفرصة الاقتراب مما تشكله «كارمن» كشخصية درامية تنتمي إلى الحياة والحب والرقص والفرح، لننتهي في مشهد القتل إلى عندما خرج علينا الكومبارس وقد التحفوا السواد وتوزعوا على الخشبة المائلة، ليحرضوا استعدادنا لملاقاة اللحظة الدرامية الخطيرة وهي قتل «كارمن»، التي كنا نعرفها ليس لأننا قرأنا القصة ولكن لأن كل أدوات هذه التراجيديا كانت تقول ذلك، عندما سار العمل منذ بداية رؤيتنا للديكور إلى لحظة دخول نصل السكين في بطنها بنفس البرود الذي كان أسلوبا طاغيا، قتل كل الفرح الذي تمثله «كارمن». أما غياب الرقص فقد كان السؤال الأكثر قوة في «تراجيديا كارمن» والذي نفترض بأنه يجب أن يكون حاضرا في مثل هذه العروض، وكان غريبا ذلك التعامل مع فرقة «سمة» المعروفة والتي أدهشتنا في الكثير من المواقع والتي تمتلك أكثر من اثني عشر راقصاً محترفاً يمتلكون كل القدرة على التواجد بأجسادهم، مع مخرج لا يؤمن إلا بالجسد في عرض تبارى فيه المبدعون في العالم ليظهروا الجسد الراقص، إلا أن فرقة «سمة» بأجسادها الرائعة لم يكن أعضاؤها ا أكثر من كومبارس، يستطيع أن يقف مكانهم أي شخص، ما أثار لدينا الكثير من الأسئلة المتعلقة بالرؤية الإخراجية الدرامية التي تم التعامل بها في هذا العمل الاستثنائي، والذي نراه لأول مرة على مسارحنا، وقدم جرعة كبيرة من التفاؤل لكل محبي الموسيقا على إمكانية إقامة مثل هذه العروض، لكننا في الوقت نفسه يجب أن نسأل لماذا كان هناك موسيقا حية وأخرى مسجلة؟ ولماذا اختار «جهاد سعد» أن تنتهي الموسيقا قبل أن تنتهي الدراما؟ ولماذا أدى «جهاد سعد» دور زوج كارمن مظهرا كل ترهلات جسده؟.. ومع وجود احتمالية التجريب والذي بدأ يصبح سؤالا إشكالياً عريضاً، ستكون الخيارات الفنية التي هي وجهة نظر المخرج مثار جدل ستغتني بها الحالة الفنية الموجودة، والتي تستقطب كل جديد لتعبر عن توقها للتواصل مع الحياة وهي حالة من الحياة حتى لو كانت تراجيديا الموت!
الأوبرا
احد أهم الفنون الأوروبية هي الأوبرا التي تعتبر شكلا من أشكال المسرح، تعرض الدراما بالموسيقا أو بالغناء ونشأتها الأولى كانت في ايطاليا عام 1600 قبل أن تنتشر لتصبح من الفنون المهمة في كل أوروبا وتعتبر جزءاً من الموسيقا الكلاسيكية، والتي تمتلك كافة عناصر المسرح مثل التمثيل والرقص والأزياء والمشاهد المسرحية وتكون مصحوبة بأوركسترا أو فرقة موسيقية أصغر. ظهرت الأوبرا الأولى عام 1597، ومن المغنين العالميين المشهورين «لوتشيانو بافاروتي» الإيطالي الذي توفي في السنة الماضية، والذي لم يكن يغني بصوته فقط ولكن بكل أجزاء جسده وروحه. وكلمة أوبرا تعني باللغة الإيطالية «العمل» أو بذل الجهد، وهذا يفسر مزجها ما بين الفن المنفرد مع الجوقة الموسيقية، الخطبة، التمثيل، والرقص على منصة المسرح، ومن هنا أتت تسمية أوبرا أو مسرحية أوبرالية، وهي امتداد للمسرح الإغريقي الذي كانت الجوقة فيه جزءاً من أجزاء الدراما..
كارمن وصراع القيم:
خمسون فنانا وفنيا وكومبارسا صنعوا المسرحية الأوبرالية «تراجيديا كارمن» مغناة باللغة الفرنسية، ولذلك ذهبت فرصة اختيار الأصوات إلى المغنين السوريين الذي يعرفون الفرنسية والذين اختارهم المايسترو الفرنسي «سيلفان غازا نسون»، الذي قاد الأوركسترا التي يعزف فيها أيضاً موسيقيون سوريون.. و من المعروف أن الغناء الأوبرالي يتطلب قدرة عالية ومساحات متنوعة في الصوت لأن هذا النوع من الغناء يتعاطى مع حالة درامية تحتوي كافة التلوينات الروحية والحسية لتجسيد أحداث مسرحية وحوارات صنعت لها موسيقا تحاكي أحداثها وتطور شخصياتها.
«كارمن» والتي تمثل تراجيديا الحب أو تراجيديا المرأة أو تراجيديا إخفاق عملية التزاوج بين الحضارة الصناعية وعفوية حياة الطبيعة، والتي كانت شغف بيكاسو في جميع مراحل حياته وانكساراته، قد شغلت كل من تناولها وأغرت كل من عرف المسرح والأوبرا بالمحاولة بها، لما تحويه من لحظات درامية خاصة ومؤرقة احتملت الكثير من التفسيرات والتأويلات الفكرية والفنية.. فكانت عند الكثيرين قربانا لسيادة العنف الروحي القهري وقتل العفوية، عندما كانت «كارمن» غجرية تنتمي إلى اللا مكان واللازمان متحررة إلا من الطبيعة، لا يحكم انفعالاتها أو ردات فعلها أي قانون من قوانين حضارة البشر الحديثة الذين يعيشون الحضارة الصناعية، لذلك أتت وبالطريقة التي قدمها «بيتر بروك» متناقضة مع ما نعيشه من أخلاقيات الالتزام الذي يجب أن يكون أساس التفكير بالحب، والذي يجب أن يؤدي إلى زواج، في حين «كارمن» تنفعل بالحب كردة فعل طبيعية على الانجذاب إلى رجل أظهر لها الحب والود، ، وهذه تصرفات أو انفعالات منسجمة مع طبيعة الحياة الغجرية التي كانت رمز التنقل والترحال وعدم الاستقرار، فلا أرضاً لهم ولا مكاناً عندما انتموا إلى السماء في حين انتمينا نحن إلى الأرض. ولأنها لا تنتمي إلينا كان منطقيا أن تموت، ليس بالمعنى المادي للكلمة ولكن بمعنى الإقصاء والإلغاء وقتل الحب والطبيعة..
الإخراج الدرامي وغياب الرقص:
دخل جهاد سعد على نص مكتوب موسيقيا وغنائيا، وتعامل مع محترفين يعرفون الحركة على المسرح، وبسبب طبيعة الغناء الأوبرالي الذي يستهلك قدرة التنفس لا يمكن الضغط عليهم في الحركة فكانت عملية تحريكهم بسيطة على المسرح، وهذا ما يحصل في الأوبرا بشكل عام، لكن الذي أعاق حركتهم كان الديكور الذي اختاره «جهاد سعد»، والذي كان يقصد منه التحرر من الزمان والمكان الدال على الحدث، والذي كان مائلا باتجاه الجمهور ومقسوم إلى قسمين على طول الخشبة وعرضها، بلون خشبي لديه القدرة على عكس اللون الدموي الكئيب الذي كان مرافقا لكل مفاصل العرض، وخلفها ممر للدخول والخروج، وكان على الكومبارس أن يقفزوا إلى المنصة العالية من جهة العمق عندما يدخلون، ليتجمعوا على أساس أنهم أهل القرية، أو خلفية حية للمشهد، مثلما كانوا يقفزون بين قسمي أو كتلتي الخشبة من أجل الحفاظ على «الميزانسين» دون إظهار الإحساس بتلك الكتل الخشبية .. أما في صدر الفضاء المسرحي، أقرب إلى اليسار علقت لوحة كبيرة مكونة من دوامات للونين الأحمر والأسود، لتوحي بالدم والقتل الذي ستلاقيه «كارمن» في النهاية، قمعت كل احتمال لتأسيس تضارب في المشاعر الدرامية أو تفاعلها، وفرصة الاقتراب مما تشكله «كارمن» كشخصية درامية تنتمي إلى الحياة والحب والرقص والفرح، لننتهي في مشهد القتل إلى عندما خرج علينا الكومبارس وقد التحفوا السواد وتوزعوا على الخشبة المائلة، ليحرضوا استعدادنا لملاقاة اللحظة الدرامية الخطيرة وهي قتل «كارمن»، التي كنا نعرفها ليس لأننا قرأنا القصة ولكن لأن كل أدوات هذه التراجيديا كانت تقول ذلك، عندما سار العمل منذ بداية رؤيتنا للديكور إلى لحظة دخول نصل السكين في بطنها بنفس البرود الذي كان أسلوبا طاغيا، قتل كل الفرح الذي تمثله «كارمن». أما غياب الرقص فقد كان السؤال الأكثر قوة في «تراجيديا كارمن» والذي نفترض بأنه يجب أن يكون حاضرا في مثل هذه العروض، وكان غريبا ذلك التعامل مع فرقة «سمة» المعروفة والتي أدهشتنا في الكثير من المواقع والتي تمتلك أكثر من اثني عشر راقصاً محترفاً يمتلكون كل القدرة على التواجد بأجسادهم، مع مخرج لا يؤمن إلا بالجسد في عرض تبارى فيه المبدعون في العالم ليظهروا الجسد الراقص، إلا أن فرقة «سمة» بأجسادها الرائعة لم يكن أعضاؤها ا أكثر من كومبارس، يستطيع أن يقف مكانهم أي شخص، ما أثار لدينا الكثير من الأسئلة المتعلقة بالرؤية الإخراجية الدرامية التي تم التعامل بها في هذا العمل الاستثنائي، والذي نراه لأول مرة على مسارحنا، وقدم جرعة كبيرة من التفاؤل لكل محبي الموسيقا على إمكانية إقامة مثل هذه العروض، لكننا في الوقت نفسه يجب أن نسأل لماذا كان هناك موسيقا حية وأخرى مسجلة؟ ولماذا اختار «جهاد سعد» أن تنتهي الموسيقا قبل أن تنتهي الدراما؟ ولماذا أدى «جهاد سعد» دور زوج كارمن مظهرا كل ترهلات جسده؟.. ومع وجود احتمالية التجريب والذي بدأ يصبح سؤالا إشكالياً عريضاً، ستكون الخيارات الفنية التي هي وجهة نظر المخرج مثار جدل ستغتني بها الحالة الفنية الموجودة، والتي تستقطب كل جديد لتعبر عن توقها للتواصل مع الحياة وهي حالة من الحياة حتى لو كانت تراجيديا الموت!